عقيدة ميران: كيف تسعى أميركا لفرض نظام تجاري جديد؟
دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي: رؤية ستيفن ميران
في ظل التحديات المتصاعدة التي تواجه النظام التجاري العالمي، برزت ورقة بحثية مثيرة للجدل كتبها الخبير الاقتصادي ستيفن ميران (Steven Miran) تحت عنوان: "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي"، والتي باتت تُعتبر بمثابة المرجعية الفكرية غير الرسمية لفريق ترامب الاقتصادي في ولايته الثانية.
هذه الورقة لا تُقدم خطة جاهزة، بل تطرح مجموعة أدوات وأفكار لإعادة صياغة النظام التجاري الدولي بما يخدم مصلحة الولايات المتحدة على المدى الطويل، ويُعالج الاختلالات التي تراكمت منذ عقود.
🧭 ما الذي يحاول ميران إصلاحه؟
يرى ميران أن النظام التجاري الحالي — الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وتطوّر عبر اتفاقيات مثل بريتون وودز واتفاقية بلازا، ثم منظمة التجارة العالمية — قد أصبح غير عادل وغير مستدام من وجهة نظر الولايات المتحدة.
أبرز المشكلات التي يشير إليها:
العجز التجاري الأميركي المزمن.
تبعية العالم للدولار دون تحمّل أعباء عادلة.
هيمنة اقتصادات مُصنِّعة مثل الصين وألمانيا على الأسواق الأميركية.
التراجع الصناعي الأميركي بسبب تحرير الأسواق وتضخيم قيمة الدولار.
عدم توازن أسعار الصرف، حيث تستفيد دول من تخفيض عملاتها.
🧩 أدوات الدليل: 3 ركائز رئيسية
1. الرسوم الجمركية كأداة تفاوضية دائمة
ميران لا يرى الرسوم الجمركية كهدف بحد ذاتها، بل كأداة لكسب النفوذ وفرض شروط جديدة على الدول المنافسة. يرى أن البدء بفوضى جمركية شاملة يخلق حالة من اللايقين تدفع الدول إلى قبول اتفاقيات جديدة أكثر إنصافًا.
"إذا كنت الطرف الوحيد الذي يفتح أسواقه دون شروط، فستكون دائمًا الطرف الأضعف" — من تصريحات ميران لمجلة The American Conservative.
2. مبدأ المعاملة بالمثل
يركّز ميران على مبدأ: "إذا فرضت علينا تعرفة 10%، سنفرض عليك النسبة ذاتها". هذا يهدف إلى إلغاء الامتيازات الأحادية التي استفادت منها دول كثيرة — خاصة الصين — على حساب السوق الأميركية. ويضيف: "إذا أرادوا البيع في سوقنا، فعليهم فتح أسواقهم لنا بنفس الطريقة."
3. التلاعب بالعملة وسلاح الدولار
يشير ميران إلى أن قوة الدولار المفرطة تفقد الولايات المتحدة قدرتها التنافسية الصناعية، لأنها تجعل صادراتها باهظة الثمن.
يقترح ميران التفاوض حول اتفاقيات لتنسيق أسعار الصرف، مثل اتفاق بلازا (1985)، الذي خفض حينها قيمة الدولار مقابل الين والمارك. لكن الجديد في مقترحه هو الحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، مع تقييد قوته المفرطة.
كما اقترح في مقابلة أخرى فكرة أكثر جرأة: فرض رسوم أو "اشتراك" على الدول التي تستخدم الدولار كعملة احتياط، باعتبار أن هذه الدول تستفيد من الاستقرار الأميركي دون المساهمة فيه.
🟢 رؤية ثلاثية الطبقات للعالم: الأخضر، الأصفر، الأحمر
في النسخة السياسية من الورقة، كما طوّرها لاحقًا سكوت بيسنت في إدارة ترامب، تُقسّم الدول إلى ثلاث مجموعات:
الدول الخضراء: حلفاء ملتزمون يحصلون على امتيازات جمركية وأمنية، وربما تثبيت عملاتهم مقابل الدولار ضمن نطاق متفق عليه.
الدول الصفراء: دول محايدة تخضع للتفاوض.
الدول الحمراء: خصوم اقتصاديون تُفرض عليهم شروط قاسية، تشمل تعريفات مرتفعة وقيودًا على الوصول للدولار أو السوق الأميركية.
هذا التصنيف يُشكّل نواة النظام الجديد الذي تسعى الإدارة إلى فرضه — شبيهًا بروح نظام بريتون وودز لكن بدون الذهب.
⚖️ مقارنة مع الرؤى الأخرى
خطة ميران تختلف جذريًا عن رؤى إدارات سابقة:
أوباما وبايدن ركزوا على تحالفات تجارية متعددة الأطراف (مثل TPP) ودعم منظمة التجارة العالمية.
ميران يفضل الاتفاقات الثنائية، واستخدام أدوات القوة الاقتصادية لإعادة فرض شروط جديدة.
في المقابل، فإن بايدن — رغم دعمه للتصنيع المحلي — تجنّب الدخول في حروب تجارية مفتوحة.
🌍 موقف الدول الكبرى من الرؤية
الاتحاد الأوروبي أبدى قلقًا من التصنيفات السياسية، ويرى أن المعاملة بالمثل يجب أن تكون في إطار تفاوضي وليس تهديدي.
الصين ترى الخطة محاولة أميركية لمحاصرتها ماليًا وتجاريًا.
اليابان وكوريا الجنوبية قد تتجاوب جزئيًا إذا ضمنت حمايتها الأمنية واستقرار سعر صرفها.
لكن يبقى التحدي الأساسي: هل ستثق الدول مجددًا بأميركا كضامن لنظام عالمي جديد؟ خاصة بعد انسحاب ترامب من اتفاقيات كبرى في فترته الأولى.
💭 هل هذه الرؤية قابلة للتطبيق؟
يرى مؤيدو ميران أن هذه الورقة تمثل محاولة واقعية لإعادة التوازن للنظام العالمي، بينما يصفها منتقدون بأنها وصفة لعزل أميركا وإثارة نزاعات تجارية واسعة.
لكن الأكيد أن هذه الورقة تُجسّد العقل الاستراتيجي الجديد لإدارة ترامب، وأنها — رغم ما فيها من طموحات ومخاطر — أصبحت جزءًا من النقاش العالمي حول مستقبل التجارة، والدور الذي يجب أن تلعبه أميركا في إعادة بنائه.
📌 الخلاصة
"دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي" ليس خطة مثالية، بل دليل إرشادي لمشروع أكبر يتشكل في كواليس السياسة الأميركية. وبينما يتجادل الاقتصاديون حول آثاره، يتعامل فريق ترامب معه على أنه بداية التحوّل نحو نظام جديد، يقوم على التوازن، والرد بالمثل، واستثمار النفوذ المالي الأميركي لإعادة رسم قواعد اللعبة.
وقد يكون هذا الدليل هو السطر الأول في مارالاغو أكورد جديد — اتفاق يغيّر شكل الاقتصاد العالمي كما فعلت اتفاقيات بريتون وودز وبلازا من قبل.