حرب الدجاج: معركة اقتصادية غيرت مسار التجارة العالمية
آثار خطط ترامب للتوسع في التعريفات الجمركية
في ذروة الحرب الباردة، عندما كان العالم مشغولًا بالتوترات الجيوسياسية، اندلعت "حرب الدجاج"، وهي نزاع تجاري غريب لكنه محوري، بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية. هذه الحرب التي بدأت بسبب الدجاج الأمريكي الرخيص تركت بصمة دائمة على التجارة العالمية وصناعة السيارات الأمريكية على وجه الخصوص.
البداية: هيمنة الدجاج الأمريكي
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا تعاني من دمار اقتصادي واسع النطاق، بينما كانت الولايات المتحدة تنعم بقوتها الصناعية المتعافية. من خلال خطة مارشال، قدمت أمريكا مساعدات لإعادة إعمار أوروبا واليابان، مما أسس لعلاقات اقتصادية وسياسية قوية مع حلفائها. مع الوقت، أدى هذا التعاون إلى زيادة التجارة بين الدول الغربية تحت مظلة الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (GATT)، مما مهد الطريق للعولمة الاقتصادية.
لكن الهيمنة الأمريكية في العديد من القطاعات بدأت تثير استياء الأوروبيين. في الزراعة، تمكن المزارعون الأمريكيون من إنتاج دجاج بكميات كبيرة وأسعار منخفضة بفضل التكنولوجيا المتقدمة. عندما وصل هذا الدجاج الرخيص إلى أوروبا، سيطر بسرعة على الأسواق الألمانية والفرنسية، مما ألحق ضررًا كبيرًا بالمزارعين المحليين. كرد فعل، فرضت أوروبا تعريفات جمركية رفعت سعر الدجاج الأمريكي بشكل كبير، حيث زاد سعر الدجاج الذي كان يكلف 1.60 دولار إلى 2.25 دولار.
الرد الأمريكي: ضربة على الشاحنات الألمانية
لم يكن الرد الأمريكي بطيئًا. في 4 ديسمبر 1963، أصدر الرئيس ليندون جونسون "إعلان 3564"، الذي فرض تعريفات جمركية على العديد من المنتجات الأوروبية، بما في ذلك نشا البطاطس، البراندي، والدكسترين. لكن الإجراء الأكثر تأثيرًا كان فرض ضريبة بنسبة 25% على الشاحنات الخفيفة المستوردة، فيما أصبح يعرف لاحقًا بـ"ضريبة الدجاج".
جاءت هذه الخطوة في وقت كانت فيه شاحنات فولكس واجن، مثل النموذج الشهير "باص"، تحظى بشعبية واسعة في السوق الأمريكية. كانت فولكس واجن تستعد لإطلاق نسخة شاحنة صغيرة من هذا الطراز، لكن التعريفات الأمريكية أوقفت هذا التوسع، مما أعطى شركات السيارات الأمريكية ميزة كبيرة في السوق.
كانت النتائج فورية: انخفضت مبيعات الشاحنات الألمانية في الولايات المتحدة إلى النصف، ولم تتعافَ أبدًا. في الوقت نفسه، استمرت الأسعار المرتفعة للدجاج في أوروبا، مما أضر بالمستهلكين الألمان.
درس حرب الدجاج: من يدفع الثمن؟
تعكس حرب الدجاج بشكل واضح الآثار السلبية للتعريفات الجمركية. فعلى الرغم من أنها تحمي صناعات محددة، إلا أنها غالبًا ما تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، مما يضع العبء الأكبر على المستهلكين.
ورغم مرور عقود على فرضها، لا تزال ضريبة الدجاج قائمة حتى اليوم، وإن كانت بمعدل أقل. أثرت هذه الضريبة على هيكلية سوق السيارات في الولايات المتحدة، حيث أصبحت معظم الشاحنات الخفيفة تُصنع محليًا أو في أسواق قريبة مثل المكسيك، لتجنب التكاليف الإضافية. ومع ذلك، تمكنت الشركات الأجنبية مثل تويوتا ونيسان من نقل خطوط إنتاجها إلى الولايات المتحدة، مما أعاد التوازن بين المنافسة المحلية والدولية.
عودة التعريفات في عهد ترامب
بعد عقود من تقليص دور التعريفات الجمركية في السياسة التجارية، أعاد الرئيس السابق دونالد ترامب استخدامها كأداة رئيسية ضمن شعاره "أمريكا أولًا".
مثال الغسالات
في عام 2018، فرضت إدارة ترامب تعريفات على الغسالات المستوردة، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الغسالات المحلية والمستوردة على حد سواء، وحتى المجففات التي لم تشملها التعريفات.
رغم أن هذه السياسة خلقت حوالي 1,800 وظيفة جديدة وحققت للحكومة إيرادات بقيمة 82 مليون دولار سنويًا، إلا أن المستهلكين دفعوا الثمن، حيث ارتفعت الأسعار بمقدار 1.5 مليار دولار. ما جعل تكلفة كل وظيفة جديدة تصل إلى 815 ألف دولار.
الرسوم على الصلب والألمنيوم
كما فرضت تعريفات جمركية على الصلب والألمنيوم، مستهدفة الصين بحجة حماية الأمن القومي ومعاقبتها على انتهاكات قواعد التجارة العالمية. لكن هذه الخطوة أثرت سلبًا على الصناعات التي تعتمد على هذه المواد بسبب ارتفاع التكاليف، مما أدى إلى فقدان وظائف في هذه القطاعات.
لماذا تستمر التعريفات رغم أضرارها؟
حتى مع وجود أدلة واضحة على الأضرار الاقتصادية، فإن إزالة التعريفات الجمركية ليست بالأمر السهل لسببين رئيسيين:
حماية المصالح المحلية: تستفيد بعض الشركات من هذه الرسوم وتضغط للحفاظ عليها.
أداة للتفاوض: تُستخدم التعريفات كورقة ضغط في المفاوضات التجارية مع الدول الأخرى.
على سبيل المثال، لا تزال الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الشاحنات خلال حرب الدجاج قائمة بعد أكثر من 60 عامًا، رغم أن سوق الدجاج الأمريكي لم يعد يعتمد على التصدير لأوروبا.
خطط ترامب للتوسع في التعريفات
خلال حملته للعودة إلى الرئاسة، اقترح ترامب فرض تعريفات جمركية جديدة ضخمة تصل إلى 60% على الواردات من الصين، وما بين 10% إلى 20% على الواردات من دول أخرى.
تشير الدراسات إلى أن هذه الخطط قد تكلف الأسرة الأمريكية حوالي 2,600 دولار سنويًا، وتؤدي إلى فقدان أكثر من 684 ألف وظيفة. ورغم ذلك، يرى ترامب أن هذه الرسوم قد توفر إيرادات ضخمة تُستخدم لتمويل تخفيضات ضريبية للأمريكيين، حيث قد تدر حوالي ربع تريليون دولار سنويًا.
الخلاصة: إرث حرب الدجاج
قصة حرب الدجاج تُظهر أن القرارات الاقتصادية قد تكون لها عواقب طويلة الأمد تفوق بكثير الأهداف قصيرة المدى التي وُضعت من أجلها. اليوم، ومع التوترات العالمية المتزايدة، أصبحت التعريفات الجمركية جزءًا من الصراع الاقتصادي بين الدول الكبرى.
هل ستؤدي هذه السياسات إلى تحسين الاقتصاد أم ستخلق مزيدًا من التحديات؟ هذا هو السؤال الذي ستجيب عليه السنوات القادمة. لكن من المؤكد أن حرب الدجاج ستظل درسًا لا يُنسى في التاريخ الاقتصادي.