الرسوم تُربك الأسواق.. والمستثمرون يفرّون بحثًا عن أمان مفقود
في وقت تتصاعد فيه تداعيات الحرب التجارية التي فجّرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لم تقتصر آثار الرسوم الجمركية على حركة التجارة والأسعار، بل امتدت لتقلب مفاهيم طالما اعتُبرت بديهية في الأسواق المالية. ففي ظل هذه الفوضى، يتراجع الدولار والسندات الحكومية عن أدوارها كملاذات آمنة، بينما يعود الذهب والفرنك السويسري إلى الواجهة، وسط قلق من أزمة سيولة شبيهة بما شهده العالم في ذروة جائحة كورونا.
الدولار يفقد بريقه… "العملة الملك" لم تعد ملاذًا
لطالما كان الدولار يُعد العملة الأكثر أمانًا وقت الأزمات، لكن هذه المرة، كان من أوائل ضحايا استراتيجية ترمب التجارية. فمنذ إعلان الرسوم الجمركية، تراجع الدولار بشكل حاد، متزامنًا مع هبوط أسواق الأسهم الأميركية، في مشهد غير معتاد.
📉 سجل الدولار تراجعًا بأكثر من 5% مقابل سلة من العملات الرئيسية منذ بداية العام، وهو أسوأ أداء لبداية سنة منذ 2016، بحسب بيانات LSEG.
ما زاد من غرابة الصورة هو أن الدولار لم يستفد حتى من ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأميركية، والتي تُعد عادة من أهم داعميه. وفي هذا السياق، صرّح مايكل ميتكالف، رئيس استراتيجيات الاقتصاد الكلي في State Street Global Markets، قائلًا:
"عدم استفادة الدولار من العوائد المرتفعة يُظهر أنه لم يعد يُنظر إليه كملاذ آمن."
انهيار سوق السندات... انهيار الثقة؟
في الأسابيع الأولى من الأزمة، اتجه المستثمرون إلى شراء السندات الحكومية هربًا من الأسهم، كما جرت العادة، لكن هذا الاتجاه انقلب لاحقًا مع تسارع الأحداث.
بعد أن انخفض العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات بـ26 نقطة أساس الأسبوع الماضي، قفز هذا الأسبوع بـ40 نقطة أساس، وارتفع عائد السندات لأجل 30 سنة بـ50 نقطة، في أكبر قفزة أسبوعية منذ الثمانينات.
وصل مؤشر تقلبات السندات إلى أعلى مستوى له منذ نهاية 2023، في إشارة إلى تصاعد الخوف في سوق الدين.
ما يحصل لا يُفسّر فقط من خلال تغيّر التوقعات الاقتصادية، بل من خلال تخلي المؤسسات المالية عن السندات، كما قال مايكل براون من Pepperstone:
"ما يحدث يعكس تآكل ثقة المؤسسات في أصول الخزانة الأميركية."
هذا التراجع في الثقة تجلّى أيضًا في تصفية استراتيجية "الأساس" التي تعتمدها صناديق التحوط، والتي تراهن على الفرق بين العائد النقدي والعقود الآجلة للسندات. ومع اضطراب هذا الفرق، تحوّلت الاستراتيجية من وسيلة تحوط إلى مصدر خسارة.
تداعيات أزمة الثقة لم تقتصر على أميركا، بل امتدت إلى بريطانيا، حيث ارتفع العائد على السندات لأجل 30 عامًا إلى أعلى مستوى له منذ 1998، مما يزيد الضغط على المالية العامة البريطانية.
الذهب يتألق من جديد… ملاذ يعود من بعيد
بينما تهتز الثقة في الأصول الأميركية، وجد المستثمرون ضالتهم في الذهب، الذي قفز مجددًا إلى مستويات تاريخية.
تجاوز سعر الأونصة حاجز 3,000 دولار، وهو أعلى مستوى تاريخي، بعد أن تضاعف تقريبًا خلال عامين ونصف.
ورغم تعرض المعدن الثمين لموجة بيع مؤقتة من أجل تلبية طلبات السيولة، فقد ارتفع يوم الأربعاء بنسبة 2%، ليقترب من ذروته عند 3,167 دولارًا.
لا تزال البنوك المركزية والمستثمرون الكبار يشترون الذهب بكثافة، لأسباب تمتد من التحوط ضد التضخم إلى الخوف من الانعزالية التجارية لسياسات ترمب.
الفرنك السويسري والين الياباني... العودة إلى الكلاسيكيات
إلى جانب الذهب، استعادت عملات الملاذ التقليدية مكانتها، وتقدّمت إلى الواجهة في ظل ضعف الدولار والسندات.
💴 الين الياباني سجل أفضل أداء له مقابل الدولار منذ سبتمبر، مستفيدًا من الهروب الجماعي نحو الأمان.
💶 الفرنك السويسري ارتفع بنسبة تقارب 7.5% منذ بداية 2025، مستفيدًا من ثقته المستقرة لدى المستثمرين.
كلا العملتين تؤديان الآن دور "الأقل ضررًا"، في عالم تنقلب فيه قواعد الأمان رأسًا على عقب.
الأسهم الدفاعية: من ينجو من العاصفة؟
حتى داخل سوق الأسهم، يبحث المستثمرون عن المأوى. ومع تصاعد التوترات، بدأ التوجه نحو الأسهم الدفاعية، مثل شركات الأدوية، والمرافق، والمواد الغذائية، والتي تحقق أداءً مستقرًا حتى في فترات الركود.
ورغم أن الاقتصاد الأميركي لم يُظهر بعد إشارات دخول فعلي في ركود، إلا أن أداء هذه القطاعات منذ فوز ترمب في نوفمبر يُظهر أن الأسواق تتحضّر لسيناريو الأسوأ.
الخلاصة
في عالم يتغيّر بسرعة تحت وطأة سياسة ترمب التجارية، تفقد الأدوات التقليدية لوظيفتها التاريخية. لم يعد الدولار والسندات الأميركية هما الملاذ التلقائي في أوقات الأزمات. بل إن الذهب، والفرنك، والين، والأسهم الدفاعية باتت الوجهات البديلة.
وفي حين يبحث المستثمرون عن الأمان، تبقى الحقيقة القاسية أن الملاذات لم تعد آمنة كما كانت. وفي ظل غياب ثقة واضحة، وتزايد الإشارات إلى أزمة سيولة عالمية، يبقى الحذر – لا الأمل – هو السمة الطاغية على مزاج الأسواق.
📩 اشترك الآن لتصلك تحليلات مركب مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!
📩 تابعنا على قناة التلغرام: https://t.me/murakkabnet
🐦 انضم إلينا على تويتر: murakkabnet