كسر بنك إنجلترا: كيف هزّ جورج سوروس وفريقه النظام النقدي البريطاني في يوم واحد؟
في 16 سبتمبر 1992، شهد العالم ما يُعرف اليوم باسم "الأربعاء الأسود"، وهو اليوم الذي تسبّب فيه المستثمر الشهير جورج سوروس وفريقه في انهيار الجنيه الإسترليني وخروج المملكة المتحدة من آلية سعر الصرف الأوروبية. هذه الحادثة لم تكن فقط لحظة حرجة في السياسة النقدية البريطانية، بل أصبحت رمزًا لقدرة الأسواق على كسر إرادة البنوك المركزية — وهي اللحظة التي "كُسر فيها بنك إنجلترا".
👤 من هو جورج سوروس؟
جورج سوروس (George Soros) هو ملياردير أميركي من أصل يهودي مجري، يُعد من أبرز المستثمرين في القرن العشرين، وأشهر من راهن ضد البنوك المركزية. وُلد في بودابست عام 1930 ونجا من الاحتلال النازي، ثم هاجر إلى بريطانيا ودرس الفلسفة في جامعة لندن. لاحقًا، انتقل إلى نيويورك وأسس صندوق كوانتم (Quantum Fund) الذي حقق عوائد استثنائية.
في عام 1992، أصبح "الرجل الذي كسر بنك إنجلترا"، حين ربح أكثر من مليار دولار في يوم واحد عبر المضاربة على الجنيه الإسترليني. لكنه أيضًا شخصية مثيرة للجدل: فهو من أبرز المنتقدين لسياسات إسرائيل رغم خلفيته اليهودية، وتعرض لهجمات من اليمين الأميركي والأوروبي، واتُهم في العديد من نظريات المؤامرة.
سوروس يؤمن بفكرة "المجتمع المفتوح"، ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم من خلال مؤسسته (Open Society Foundations). يرى الأسواق كأنظمة نفسية تتفاعل مع التوقعات، ويعتمد على نظرية الانعكاسية (Reflexivity) في قراراته الاستثمارية.
🔍 خلفية: ما هي آلية سعر الصرف الأوروبية؟
في أواخر الثمانينيات، انضمت بريطانيا إلى آلية سعر الصرف الأوروبية (ERM)، وهي نظام يهدف إلى تثبيت أسعار صرف العملات الأوروبية استعدادًا لإطلاق اليورو لاحقًا. وبموجب هذه الآلية، التزمت بريطانيا بالحفاظ على سعر صرف الجنيه ضمن نطاق ضيق مقابل المارك الألماني.
لكن الاقتصاد البريطاني كان يواجه ركودًا، وأسعار الفائدة كانت مرتفعة، والتضخم كان غير مستقر، مما جعل هذا الربط غير قابل للاستدامة.
💼 خطة سوروس وفريقه
من بين العقول التي عملت مع سوروس في هذه العملية كان سكوت بيسنت، الذي شغل لاحقًا منصب وزير الخزانة في إدارة ترامب الثانية. لم يكن بيسنت مجرد موظف تنفيذي، بل كان من العقول الاقتصادية البارزة داخل صندوق كوانتم، مسؤولًا عن تحليل السياسات النقدية الأوروبية. لقد ساهم في تقديم الرؤية التحليلية التي دعمت القرار بالرهان على فشل بنك إنجلترا في الدفاع عن الجنيه.
هذه الخلفية مهمة اليوم لفهم فلسفة بيسنت الحالية؛ فهو، كما في 1992، يعتقد أن الأنظمة النقدية غير المتوازنة يمكن إسقاطها إذا تم الضغط عليها بشكل صحيح — ثم إعادة تشكيلها وفق قواعد جديدة تخدم المصالح الأميركية. ما فعله بالأمس في الأسواق، يحاول اليوم فعله على مستوى النظام التجاري العالمي بأكمله.
كان سوروس، الذي يدير صندوق التحوّط Quantum Fund، يعتقد أن الجنيه الإسترليني مقوّم بأعلى من قيمته الحقيقية، وأن بريطانيا لن تستطيع الدفاع عنه طويلًا. فبدأ بالمراهنة على انهيار الجنيه — أي بيع كميات ضخمة من الجنيه في السوق (short selling) مقابل الدولار والمارك.
من بين العقول التي عملت معه في ذلك الوقت سكوت بيسنت، الذي سيصبح لاحقًا أحد أهم مستشاري دونالد ترامب الاقتصاديين. كان بيسنت مسؤولًا عن تحليل السياسات النقدية الأوروبية، ولعب دورًا في تنفيذ تلك الاستراتيجية.
💣 المواجهة مع بنك إنجلترا
مع تزايد الضغط على الجنيه، تدخل بنك إنجلترا بقوة:
ضخ مليارات الجنيهات في السوق لمحاولة شرائه ودعمه.
رفع أسعار الفائدة إلى 15% في محاولة لردع المضاربين.
لكن الرهان كان أكبر من قدرات البنك. واصل سوروس البيع، وخسرت الحكومة البريطانية أكثر من 3 مليارات جنيه استرليني في يوم واحد.
📉 النتيجة: الجنيه ينهار، وبريطانيا تنسحب
بحلول مساء يوم الأربعاء 16 سبتمبر 1992، وبعد سلسلة محاولات فاشلة للدفاع عن الجنيه خلال ساعات النهار، أعلنت بريطانيا انسحابها من آلية سعر الصرف الأوروبية وترك الجنيه يطفو بحرية، فانخفضت قيمته بنسبة كبيرة.
ربح سوروس أكثر من مليار دولار، بينما مُني بنك إنجلترا بخسارة تاريخية. ومنذ ذلك الحين، أصبح يُشار إلى سوروس بأنه "الرجل الذي كسر بنك إنجلترا".
🔍 لماذا فشلت بريطانيا؟
دخلت آلية سعر الصرف بسعر صرف غير مناسب.
لم تكن مستعدة لتحمّل أسعار فائدة عالية لفترة طويلة.
لم تستطع مواكبة الظروف الاقتصادية في ألمانيا، خاصة بعد توحيدها.
🧠 الدروس المستفادة
الأسواق يمكن أن تتغلب على البنوك المركزية إذا كان الأساس الاقتصادي هشًا.
تثبيت سعر الصرف يتطلب انسجامًا اقتصاديًا بين الدول — وهو ما لم يكن موجودًا حينها.
المضاربون ليسوا دائمًا مجرد مغامرين؛ أحيانًا، يرون الحقيقة قبل البنوك.
📌 الختام
حادثة "كسر بنك إنجلترا" ليست مجرد قصة عن أرباح ضخمة أو خسائر فادحة. إنها لحظة كشفت هشاشة الأنظمة النقدية عندما تُبنى على قرارات سياسية لا يرافقها انسجام اقتصادي. وهي أيضًا شهادة على قوة التحليل المالي — وقدرة أفراد مثل سوروس وبيسنت على قراءة النظام وفهم نقاط ضعفه في اللحظة المناسبة.
وفي النهاية، لم تكن المسألة بين مضارب وبنك... بل بين السوق والسياسة — وانتصرت السوق.
🧭 ما بعد الحادثة: من الأسواق إلى السياسات العليا
اليوم، وبعد أكثر من 30 عامًا على تلك الحادثة، عاد اسم سكوت بيسنت إلى الواجهة ولكن من موقع مختلف تمامًا. فهو الآن يشغل منصب وزير الخزانة في إدارة ترامب الثانية، ويُعد من أبرز مهندسي خطة إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي.
يعتمد بيسنت على الرؤية ذاتها التي قادته في 1992: الضغط على الأنظمة غير المتوازنة حتى تنهار، ثم إعادة تشكيل القواعد بما يخدم مصالح الولايات المتحدة. هذه المرة، لا يستهدف عملة بعينها، بل يسعى لإعادة ضبط النظام الاقتصادي العالمي بأكمله — من خلال التعرفات الجمركية، والمعاملة بالمثل، وفرز الدول إلى حلفاء "خضر" وآخرين "حمر".
كأن ما بدأ كعملية مضاربة ضد بنك مركزي... أصبح اليوم استراتيجية لإعادة صياغة ميزان القوى العالمي.
حادثة "كسر بنك إنجلترا" ليست مجرد قصة عن أرباح ضخمة أو خسائر فادحة. إنها لحظة كشفت هشاشة الأنظمة النقدية عندما تُبنى على قرارات سياسية لا يرافقها انسجام اقتصادي. وهي أيضًا شهادة على قوة التحليل المالي — وقدرة أفراد مثل سوروس وبيسنت على قراءة النظام وفهم نقاط ضعفه في اللحظة المناسبة.
وفي النهاية، لم تكن المسألة بين مضارب وبنك... بل بين السوق والسياسة — وانتصرت السوق.