هل نحن على أعتاب بريتون وودز جديدة؟
تحليل شامل لخطة ترامب لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي عبر التعريفات الجمركية والاصطفافات الجيوسياسية
🟦 ترامب والنظام العالمي الجديد
عندما تصبح "التعرفة الجمركية" الكلمة الأجمل في قاموس السياسة
في عام 2025، بينما يترقّب العالم قرارات الفيدرالي أو مؤشرات البطالة، يصرّ دونالد ترامب على أن "التعرفة الجمركية" هي أداة القوة الحقيقية.
وبينما يراها الاقتصاديون تهديدًا للاستقرار، يراها فريق ترامب حجر الأساس لخطة أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة ذاتها بعد الحرب العالمية الثانية.
اللافت أن هذه الخطة ليست مجرد ردّ فعل أو فوضى غير مدروسة، بل جزء من تصور متكامل يسعى، حسب ما يظهر من تصريحات مستشاري ترامب، إلى تأسيس نظام عالمي جديد يقوم على مبدأ:
"من معنا... يكسب السوق والحماية، ومن ليس معنا... يدفع الثمن."
أولاً: من هم مهندسو هذا المشروع؟
🧠 سكوت بيسنت (Scott Bessent)
وزير الخزانة الجديد، ملياردير صناديق التحوّط، عمل سابقًا مع جورج سوروس في عملية مالية شهيرة تُعرف بـ"كسر بنك إنجلترا" عام 1992، حيث راهن سوروس وفريقه – ومن بينهم بيسنت – ضد قدرة البنك المركزي البريطاني على الحفاظ على ربط الجنيه الإسترليني بالمارك الألماني، وهو ما أدّى في النهاية إلى انهيار الجنيه وخروج بريطانيا من آلية سعر الصرف الأوروبية، وحقّقوا حينها أكثر من مليار دولار من الأرباح في يوم واحد. هذه الحادثة أكسبت بيسنت شهرة واسعة كأحد العقول القادرة على قراءة نقاط ضعف الأنظمة الاقتصادية العالمية واستغلالها بدقة.
كما أن بيسنت يملك خلفية أكاديمية قوية، وسبق له تدريس التاريخ الاقتصادي في جامعة ييل.
كسر بنك إنجلترا: كيف هزّ جورج سوروس وفريقه النظام النقدي البريطاني في يوم واحد؟
في 16 سبتمبر 1992، شهد العالم ما يُعرف اليوم باسم "الأربعاء الأسود"، وهو اليوم الذي تسبّب فيه المستثمر الشهير جورج سوروس وفريقه في انهيار الجنيه الإسترليني وخروج المملكة المتحدة من آلية سعر الصرف الأوروبية. هذه الحادثة لم تكن فقط لحظة حرجة في السياسة النقدية البريطانية، بل أصبحت رمزًا لقدرة الأسواق على كسر إرادة البنوك المركزية — وهي اللحظة التي "كُسر ف…
🧠 ستيفن ميران (Steven Miran)
كبير المستشارين الاقتصاديين، تخرّج من هارفرد، وعمل في وول ستريت، وأثار الجدل بورقته البحثية الأخيرة: "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي."
يرى ميران أن سبب تراجع مكانة الولايات المتحدة اقتصاديًا يعود إلى النظام النيوليبرالي الذي سمح بانهيار القاعدة الصناعية الأميركية لصالح الصين وغيرها.
عقيدة ميران: كيف تسعى أميركا لفرض نظام تجاري جديد؟
في ظل التحديات المتصاعدة التي تواجه النظام التجاري العالمي، برزت ورقة بحثية مثيرة للجدل كتبها الخبير الاقتصادي ستيفن ميران (Steven Miran) تحت عنوان: "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي"، والتي باتت تُعتبر بمثابة المرجعية الفكرية غير الرسمية لفريق ترامب الاقتصادي في ولايته الثانية.
ثانيًا: لماذا التصنيع مهم لهذه الدرجة؟
يعتقد فريق ترامب أن الاقتصاد الأميركي فقد بوصلته الصناعية. ففي الخمسينيات، كانت الصناعة تمثل 28% من الناتج المحلي، أما اليوم فلا تتجاوز 10%.
وهذا التراجع، بحسبهم، ليس مجرد مسألة وظائف، بل:
أزمة في المناطق الصناعية المهملة التي أصبحت خزانًا انتخابيًا لترامب.
مشكلة أمن قومي، إذ يرى بيسنت وفريقه أن ضعف القاعدة الصناعية يعني ضعف القدرة على خوض الحروب، خاصة إذا اندلعت مواجهة مع الصين.
ثالثًا: جذور المشكلة في النظام العالمي نفسه
لفهم خطة ترامب لإعادة تشكيل التجارة العالمية، علينا أولًا أن نعود إلى النظام الذي وضعته الولايات المتحدة بنفسها قبل ثمانية عقود: اتفاق بريتون وودز.
🏛️ اتفاق بريتون وودز: عندما أسست أمريكا النظام الذي تحاربه اليوم
في عام 1944، وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية، دعت الولايات المتحدة ممثلي 44 دولة إلى مدينة صغيرة في نيوهامبشر تُدعى بريتون وودز.
كان الهدف من المؤتمر هو إعادة بناء النظام الاقتصادي العالمي وتفادي الكوارث التي سبقت الحرب، مثل الكساد الكبير وحروب العملات.
ما الذي تم الاتفاق عليه؟
ربط العملات بالدولار، والدولار بالذهب.
تأسيس مؤسسات جديدة بقيادة أمريكية (صندوق النقد والبنك الدولي).
ترتيب أمني–اقتصادي مزدوج: حماية عسكرية مقابل دخول السوق الأمريكي.
لماذا قبلت أمريكا بذلك؟
رغم ما يبدو أنه تنازل، إلا أن أمريكا كسبت:
تحالفات ضد الاتحاد السوفيتي.
التحكم بالنظام المالي العالمي.
دور الدولار كعملة احتياطية عالمية ("الامتياز الباهظ").
لكن هذه المعادلة بدأت تنهار مع تزايد طباعة الدولار، ما عُرف بـ"معضلة تريفين"، إلى أن أعلن نيكسون في 1971 إنهاء قابلية تحويل الدولار إلى الذهب.
رابعًا: النيوليبرالية — من ريغان إلى ترامب
بعد انهيار نظام بريتون وودز، دخل العالم في عصر جديد تقوده أمريكا أيضًا: النظام النيوليبرالي، والذي تأسس فعليًا مع رئاسة رونالد ريغان في الثمانينيات، ورافقته مارجريت تاتشر في بريطانيا.
💼 أبرز ملامح هذا النظام:
تحرير التجارة وخفض الرسوم الجمركية.
رفع القيود عن رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي.
تعويم العملات (نهاية الربط بالدولار أو الذهب).
استمرار الحماية الأميركية للشحن العالمي.
لكن لحظة التحوّل المهمة كانت اتفاق بلازا (Plaza Accord) عام 1985، عندما اجتمعت أمريكا مع اليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا للاتفاق على رفع قيمة الين والمارك مقابل الدولار.
الهدف كان تقليل العجز التجاري الأميركي وتحفيز الصناعة المحلية، لكن النتيجة كانت كارثية على اليابان التي دخلت في فقاعة اقتصادية ثم ركود طويل.
🧩 ماذا حدث لاحقًا؟
في عام 2001، انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وبدأت موجة جديدة من نقل الصناعات من أمريكا إلى آسيا، ما عُرف بـ"صدمة الصين".
رغم أن الاقتصاد الأميركي نما، إلا أن عدم المساواة ازداد، والمناطق الصناعية انهارت، وهي ما مهّد الطريق لانتخاب ترامب عام 2016.
خامسًا: خطة ترامب الكبرى — إعادة تشكيل النظام العالمي
🟠 المرحلة الأولى: فوضى الرسوم الجمركية
فرض ترامب رسوماً جمركية على الجميع — الحلفاء والخصوم — بهدف خلق حالة من الفوضى المؤقتة، تستخدم كأداة تفاوض لاحقة.
كما يقول بيسنت: "التعرفة لم تعد فقط وسيلة حماية... بل ورقة تفاوض."
ويضيف ميران: "الفوضى مرحلة أولى لكسب النفوذ."
🟡 المرحلة الثانية: المعاملة بالمثل
هنا تدخل أمريكا مرحلة فرض رسوم مساوية لما تفرضه الدول الأخرى. الصين؟ أوروبا؟ المكسيك؟ كلهم يخضعون لمبدأ: "إذا فرضت علينا رسومًا، سنفعل بالمثل."
والهدف، كما صرّح به بيسنت: "خلق نظام عالمي يكافئ الابتكار والاستقرار لا التلاعب بالعملة أو سرقة الملكية الفكرية."
🟢 المرحلة الثالثة: اتفاق مارالاغو
تشير تصريحات ميران وبيسنت إلى أنهم يسعون للوصول إلى اتفاق عالمي جديد — على غرار بريتون وودز أو بلازا — لكنه يتم في مارالاغو، مقر ترامب في فلوريدا.
وفق هذا التصور:
يتم ربط بعض العملات بالدولار.
تُخفض قيمة الدولار تدريجيًا لدعم الصادرات.
تحصل الدول "الخضراء" على امتيازات مقابل دفع ثمن الحماية الأميركية.
لكن هذا يتطلب من الدول أن تتنازل عن جزء من استقلالها الاقتصادي وتثق مجددًا بأمريكا — وهو أمر ليس مضمونًا.
خلاصة مركب 💡
خطة ترامب، بحسب ما يتضح من تصريحات فريقه، ليست عبثية بل إعادة رسم للنظام الاقتصادي العالمي.
لكن نجاحها يعتمد على تحقيق توازن مستحيل تقريبًا:
الحفاظ على الدولار كعملة احتياطية عالمية.
إعادة التصنيع المحلي.
فرض قيادة أميركية شبه إمبراطورية على حلفاء "اختياريين".
👈 فهل يمكن لأميركا أن تحافظ على امتيازات النظام السابق، وتخلق نظامًا جديدًا أكثر انغلاقًا في الوقت نفسه؟
هذا هو الرهان الكبير لترامب ورفاقه.