بين العشوائية والاستراتيجية: كيف تُشكّل خطة ترامب مستقبل الاقتصاد العالمي؟
الحرب الاقتصادية الكبرى: ما لا يُقال عن خطة ترامب ضد الصين
16/4/2025
إعداد: محمد أبو ريا – مركب
كل يوم نسمع عن رسوم جمركية جديدة، حظر على شركات صينية، وردود صارمة من بكين. في الظاهر، يبدو الأمر كصراع تجاري. لكن هل هو كذلك فعلًا؟ أم أننا أمام مواجهة أعمق، تعيد رسم النظام الاقتصادي العالمي؟
بين من يراها خطة استراتيجية مدروسة، ومن يصفها برد فعل ارتجالي، يبقى الجدل محتدمًا. اقتصاديون بارزون مثل آدم بوزن ومحمد العريان يرون أن هذه السياسات زادت التكاليف وأربكت الأسواق دون نتائج حقيقية، ولكن على ما يبدو أن الموضوع يحتاج إلى النظر من أكثر من زاوية.
في هذا التقرير أحاول أن أجاوب على تساؤلات مختلفة وردتني من تعليقاتكم على سلسلة الفيديوهات التي نشرتها مؤخرًا: ماذا تريد أمريكا؟ كيف ترد الصين؟ من المتضرر الحقيقي؟ وما الذي يعنيه هذا التحول لنا نحن في العالم العربي؟
ما الذي فعله ترامب بالضبط؟ وما الجديد هذه المرة؟
في عام 2025، أعلن دونالد ترامب عن فرض تعريفات جمركية على واردات الصين تصل إلى 145%، وهي الأعلى منذ بداية النزاع التجاري في 2018.
ما جعل هذه الجولة مختلفة هو:
شمولها لقطاعات حساسة مثل الإلكترونيات، الرقائق، ومعدات التصنيع.
غياب الاستثناءات أو التدرج.
تزامنها مع تصعيد في الخطاب السياسي والانتخابي.
ما أهمية السوق الأمريكي بالنسبة للصين؟ ولماذا تأثرت بهذه الجمارك؟
📦 1. من حيث الحجم:
في 2024، صدّرت الصين ما قيمته 439 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، أي ما يعادل 12.3% من إجمالي صادراتها.
💵 2. من حيث العملة الصعبة:
الصين تتلقى مقابل هذه الصادرات دولارات أمريكية، وهي العملة المستخدمة في:
استيراد النفط والمعادن من الخارج.
سداد الديون الدولية.
دعم اليوان (العملة المحلية).
تمويل مشاريعها العالمية.
❗ انخفاض الصادرات لأمريكا = تراجع تدفق الدولار = ضغط على الاحتياطي النقدي، وسعر الصرف، والقدرة على تمويل الاستيراد والمشاريع.
لماذا كان التأثير بهذه الحدة؟ ألا يمكن للصين تعويض السوق الأمريكية؟
🔬 نوعيًا:
الصادرات إلى أمريكا تتركز في منتجات ذات هامش ربح مرتفع (أجهزة إلكترونية، مكونات ذكية…).
خسارة هذه المنتجات تعني تآكل الأرباح الحقيقية، وليس فقط انخفاض رقم الصادرات.
🧩 هيكليًا:
الشركة المصدّرة تعتمد على موردين محليين، وهؤلاء يوظفون آلاف العمال.
أي تعطيل في التصدير يؤدي إلى انكماش سلسلة التوريد المحلية بالكامل.
🧠 نفسيًا:
المفاجأة أربكت الشركات، وأوقفت خطط الاستثمار.
غياب اليقين جعل الشركات تؤجل التوسع، ما أدى إلى ركود في بعض القطاعات.
💼 استثماريًا:
بدأت الشركات العالمية بإعادة تقييم وجودها داخل الصين.
ارتفعت وتيرة خروج الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI)، خاصة من الشركات الغربية.
شركات كبرى مثل Apple بدأت بنقل خطوط إنتاج iPad وMacBook إلى فيتنام.
شركة Samsung خفّضت استثماراتها في مصانع الرقائق في الصين.
HP وDell أعلنتا عن خطط لإنتاج أجهزة الحاسوب خارج الصين.
Intel أوقفت بعض خطط التوسع في منشآتها داخل الأراضي الصينية.
📉 النتيجة: الصين لا تفقد فقط تدفقات مالية، بل أيضًا تفقد ثقة المستثمر العالمي، وهو ما قد ينعكس على توظيف العمالة المحلية ونقل التكنولوجيا.
ما هو التأثير الخاص على شركات التكنولوجيا الصينية؟
🧠 علاقة وثيقة بين التجارة والتكنولوجيا:
لم تقتصر الحرب التجارية على السلع التقليدية، بل شملت قطاع التكنولوجيا بشكل مباشر، نظرًا لكونه العمود الفقري لنمو الصين المستقبلي، ومصدر القلق الرئيسي لأمريكا.
🏭 استهداف شركات محددة:
Huawei: منعت من شراء رقائق 5G المتقدمة ومن الوصول إلى نظام Android وخدمات Google، ما أجبرها على تطوير نظام HarmonyOS الخاص بها. ورغم نجاحها النسبي محليًا، تراجعت حصتها العالمية بشكل حاد.
SMIC: وهي شركة تصنيع الرقائق الكبرى في الصين، تم منعها من شراء آلات تصنيع الرقائق المتقدمة (EUV) من شركة ASML الهولندية. النتيجة: تأخر كبير في قدرتها على منافسة شركات مثل TSMC وSamsung.
DJI وZTE وByteDance (TikTok): واجهت قيودًا متزايدة على أعمالها في السوق الأمريكية، سواء من خلال الحظر المباشر أو القيود الأمنية.
💡 تأثيرات أوسع:
تباطؤ في الابتكار نتيجة صعوبة الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة.
تراجع في الصادرات التقنية نحو الأسواق الغربية.
زيادة في تكاليف الإنتاج نتيجة محاولة تطوير بدائل محلية للتقنيات الأمريكية.
🧪 جهود تعويض الفجوة:
أطلقت الصين برنامجًا استثماريًا ضخمًا لتطوير صناعة الرقائق محليًا، يشمل دعمًا مباشرًا لشركات مثل SMIC، وتمويل الأبحاث الجامعية.
تعمل على تصنيع آلات محلية بديلة لتقنيات EUV المستخدمة في إنتاج الرقائق الدقيقة، رغم أن الفجوة التقنية ما زالت كبيرة.
أنشأت تحالفات تكنولوجية مع دول مثل روسيا وإيران لتعزيز تقنيات مستقلة عن الغرب.
تضاعف دعم الحكومة للمواهب المحلية في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والطاقة الذكية.
🧭 ورغم أن النتائج لن تظهر في المدى القصير، إلا أن الصين تتجه بوضوح نحو استراتيجية "الاكتفاء الذاتي التكنولوجي" كجزء من ردها الاستراتيجي على الضغوط الغربية.
تباطؤ في الابتكار نتيجة صعوبة الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة.
تراجع في الصادرات التقنية نحو الأسواق الغربية.
زيادة في تكاليف الإنتاج نتيجة محاولة تطوير بدائل محلية للتقنيات الأمريكية.
🎯 النتيجة: رغم بقاء بعض الشركات الصينية قوية محليًا، إلا أن قدرتها على التوسع عالميًا تأثرت بشكل واضح، كما أصبح تطوير التكنولوجيا الذاتية أولوية وطنية للصين.
ما الصورة الشاملة للخطة الأمريكية؟
رغم أن إدارة ترامب تقدم سياستها التجارية على أنها وسيلة لحماية الصناعات الأمريكية، فإن النظرة التحليلية الأشمل تكشف أن الهدف يتجاوز مجرد تقليص العجز التجاري:
🎯 أولًا: إبطاء صعود الصين التكنولوجي
ترى واشنطن أن التفوق التكنولوجي الصيني يمثل تهديدًا استراتيجيًا طويل المدى.
الحظر على الرقائق والتقنيات الحساسة يهدف إلى تأخير تقدم الصين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والاتصالات.
💣 ثانيًا: إعادة توزيع سلاسل التوريد
الضغط على الشركات الأمريكية والغربية للخروج من الصين هدفه كسر هيمنة بكين على سلاسل التوريد العالمية.
الولايات المتحدة تدعم عودة التصنيع محليًا أو نقله إلى حلفاء استراتيجيين مثل المكسيك والهند وفيتنام.
🧭 ثالثًا: تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب
هذه الحرب ليست فقط اقتصادية، بل هي جزء من صراع جيوسياسي أوسع.
واشنطن تحاول إعادة بناء نظام عالمي تقوده، قائم على "الانفصال المنظم" decoupling عن الصين، سواء في الاقتصاد أو التكنولوجيا أو النفوذ السياسي.
خطة ترامب ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل رؤية استراتيجية لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي قبل أن تُمسك الصين بزمام المستقبل.
✍️ الخاتمة:
لم تعد الحرب التجارية بين أمريكا والصين مجرد مسألة رسوم جمركية أو ميزان تجاري. نحن أمام صراع شامل بين قوتين عظميين، تحاول كل منهما إعادة تعريف قواعد اللعبة الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية.
خطة ترامب هي إعلان صريح بأن الولايات المتحدة لن تسمح بصعود الصين كقوة منافسة دون تكلفة، في حين ترد بكين بصبر وبتكتيك طويل النفس، مدفوعة برغبتها في كسر الاحتكار الأمريكي على التكنولوجيا والنفوذ العالمي.
لكن هذه الحرب ليست بلا تبعات اجتماعية وسياسية:
في الولايات المتحدة، قد تؤدي زيادة الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية إلى ضغط على الطبقة الوسطى، وتغذية خطاب الحمائية والشعبوية.
في الصين، فإن تباطؤ النمو، وتسريح العمال، وهروب الاستثمارات قد يؤدي إلى توترات داخلية، وضغوط على الحكومة لموازنة بين الحزم الاقتصادي والتهدئة الاجتماعية.
أما عالميًا، فالتضخم وسوء توزيع سلاسل الإمداد قد يدفع دولًا كثيرة إلى مراجعة سياساتها الصناعية والغذائية، وربما يرفع مستوى الاعتماد على الذات.
بالنسبة لبقية دول العالم، وعلى رأسها الدول النامية، فإن هذه التحولات ليست بعيدة عنها. فمن لا يفهم الآن ما يجري، قد يجد نفسه غدًا تابعًا في نظام عالمي لم يختره.
أما الدول العربية، فعليها أن تدرك أن الفرص لا تتكرر كثيرًا:
الفراغ الصناعي واللوجستي الناتج عن انسحاب الشركات من الصين يمكن أن يكون فرصة تاريخية لبعض الدول العربية لتكون بديلًا صناعيًا أو مركزًا إقليميًا جديدًا.
كما أن التحول الرقمي العالمي يفرض على الاقتصادات العربية اختيار مسارها التقني مبكرًا، إما بالاندماج في أحد المحورين (الغربي أو الشرقي)، أو ببناء مسار ثالث مستقل ومتعدد.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن على أبواب عصر جديد من الحرب الباردة؟ أم أن السوق والتكنولوجيا ستفرضان واقعًا أكثر مرونة مما يريده السياسيون؟